قراءة في نص ( هيا اقترب) للشاعرةرنا صالح:
__________________
لارجل في حياة المرء له مكانة الأب فوحده الأب من يحمل همّ أبنائه في نومه وصحوه ويرشدهم لما فيه خيرهم . فهو السّور المنيع الذي يحفظ العائلة وبرّ الأمان وعمود البيت وخبرة الحياة .
ورنا صالح هذه الشّاعرة البارة بوالديها أتحفتنا مرةً بنصّ عن الأمّ وهاهي اليوم تمتعنا بنصّ جديد في غاية الرةعة عن الأب .
النصّ على البحر الكامل ,وهذا البحر يعطي الشاعر مجالاً واسعاً فسيحاً أكثر من غيره في نظم واختيار معانيه والتنويع في الموسيقا الدّاخليّة بين ألفاظه وعباراته , وهذه السّعة والإيقاع يرتبطان إلى حدّ ما مع المشاعر الجيّاشة والأحاسيس المفعمة بالأحزان والتي غلبت على النصّ رغم مايبدو أحيانا على خلاف ذلك في بعض مفردات النص .
تبدأ الشاعرة نصّها ب ( ياوالدي ) والتي تتكرّر في النصّ أكثر من مرّة , وهو ليس أيّ والد بل والدها الذي عرفته عن قرب مستخدمة أداة النّداء ( يا) وهي أداة للنداء تستخدم للقريب وللبعيد ؟ هو قريب لأنّه يسكن في قلبها وفكرها وهو بعيد مكانياً بسبب السفر . هو من تعب ليواسي جرحها وفي عينيه فرح أحلامها , وعذابات كلّ كلّ الآباء والخير كلّ الخير للأبناء . وتبدو علائم الزمن تفعل فعلها بهذا الصلصال من طول المعاناة ولكنّه مع ذلك يعيد الأمل بالحياة أملها هي ويدفعها للحياة تاركة خلفها اليأس ( مازلت تلتحف الحروف ........ لتردّد الأصداء حيّ على العمل ) .
هو الأب يحاول أن يعيد ترتيب الأشياء من حوله دائماً وحياة أبنائه ليؤمّن مساحة من الطمأنينة والدفء وفي حالات الألم ( يبكي المساء ) يحمل على عاتقه كلّ الأعباء ( من أجل أن يأتي الصباح مكللاً بندى الربيع ) بل حتى إن ضاق الكون به يجترح المعجزات ( لم تبتئس .. لم تسترح .... وظللت تعرج صاعداً نحو السحب ... لتدق مسمار الوجود أمام آلاف الحقب ) وتردّد رنا مع المردّدين على مرّ الزمن أن الأبناء فلذات الأكباد لكنها هنا أجمل بإضافة ياء المتكلم وأداة النداء وضمير المتكلّم معا ( يا كبدي أنا ) .
الملفت حقاً أكثر من غبره " والنصّ كلّه ملفت " الإيقاع الذي تتمايز به شاعرتنا رنا في كلّ نصوصها وهذا النصّ واحد منها .
- حروف المد ( الحالمين . الكادحين . الأمواج . الآلام . الصلصال . جراحنا . آلاف . ياكبدي . والتي تفرض إيقاعاً على إحساس السّامع وهو إيقاع مديد بيء ينسجم ونبرة الحزن والتوجع والنداء وتجتمع مع تكرار الأحرف الأساسية الطاغية على النصّ ( كالراء مثلاً ) ممّا يمنح النصّ السلاسة والخفّة والنطق الرهيف بعيداً عن الوعورة والجفاف وائتلافاً جميلاً مع المحتوى الذي يركّز على النواحي الوجدانيّة والإنسانيّة .
- النداء ب ( يا ) : وهولإثارة الانتباه ولفت النّظر وهذا الأمر لا يتحقّق إلاّ بالإعلان وارتفاع حدّة الصوت ووضوح النطق على المستوى السمعي . والنداء هو صرخة من الشّاعر للمتلقي كي يشاركه في مشاعره أو غيرها .
- القافية السّاكنة ( حالمينْ ..كادحينْ | المطرْ .. الأثرْ ...سفر ْ | الطرقْ .... الشفقْ .............) .وهذا السكون يعبر عن حالة من العجز واستلاب الإرادة وشعور القلق وإحساس الغربة وصعوبة الحالة التي يمر بها الشاعر .
-وللأفعال في النصّ حكاية أخرى . في المقطع الأوّل بدأت بالجمل الاسميّة التقريرية لأنها راحت تسرد من مخزونها الواعي بعضاً مما طفا على ساحة الوعي وهذه الصفات التي أتت عليها تؤهّل هذا الأب أن يكون نصف إله أو ملاكاً يستطيع أن يجترح المعجزات ولذلك استخدمت أفعال الأمر( اسحب . اخلع ) وهي على ثقة بإنجازها لما تحمله في وعيها من صفات أبيها ( اخلع خطى الآلام من كلّ الطرق | واسحب وشاح الحزن من وجه الشفق ) . وهي على يقين أن السعادة تأتي بعد الشقاء .
وفي المقطعين الثاني والثالث استخدمت الأفعال المضارعة ( تفضي وتبوح وتصيح و تغازل...........)وقد أكثرت منها وهي أفعال تدل على الحيوية والحركة والاستمرار كما تدلّ على التطلع نحو المستقبل . وهي ترسم بهذه الأفعال ماهية الأب ودوره في الحياة مع أسرته . وقد بدأت المقطع بالفعل ( مازال ) وهو ماض منياً حاضر بالدلالة .
وفي المقطع الأخير ( الثالث ) عادت لتستخدم اسماء أفعال الأمر وأفعال الأمر ( هيا اقترب ) فربطت بذلك بين المقطع الأول والمقطع الأخير وكأن أفعال الأمر الطلبية هنا جاءت ردّاً على الأفعال الطلبية في المقطع الأول واستجابة لها مع تبدّل المتكلّم بين المقطعين . وهنا لابدّ من الإشارة إلى الحوار والسّرد الذي بدأ به النصّ ثمّ انتهى بحوار وسرد لمتحاور آخر ممّا منح النصّ تكامله وانسجامه وحركة متصاعدة بدأت في المقطع الأوّل بمشهد دراميّ رائع لتنتهي في المقطع الأخيربهذا القرار .
هذا غيضٌ من فيض النصّ الجميل . والذي تعددت جمالياته حدّ الاكتنازوهو نصّ يتمايز بانسجامه وتآلفه.
\هيّا اقتربْ/
ياوالدي..
...رغمَ التعبْ
-تعبٌ يواسي جرحنا-
في مقلتيكَ غناءُ كلّ الحالمينْ
، وأنينُ كلّ الكادحينْ....
، ورعود ماقبل المطرْ
وعلى جبينكَ سجدةُ الأمواج ِيتبعها الأثرْ..
.وتآكل الصلصال من طول السفرْ..
فاخلعْ خُطى الآلامِ من كلِّ الطرقْ
واسحبْ وشاحَ الحزنِ عن وجهِ الشفقْ
إذ هدأة اﻷيام ِمن رحم الصخبْ ....
ياوالدي...
مازلت تلتحفُ الحروفْ
وتعيدُ ترتيبَ الأماكنِ والرفوفْ
وتشاركُ العصفورَ تغريدَ اﻷملْ ....
وتخيطُ للعشّاقِ أثواب الغزلْ ...
لترددّ اﻷصداءُ حيَّ على العملْ....
..ياوالدي...
...مازلتَ رغم جراحنا ....
تفضي بسرّ الدفءِ في ضوء ِاللهبْ...
وتبوحُ للفجرِ الجديدِ ببعض آيات البقاءْ....
وتغازلُ الليلَ المُعنّى عندما يبكي المساءْ
من أجل أن يأتي الصباحُ مكللاً بندى الربيع
..لم تبتئس ْ
لم تسترحْ
وظللتَ تعرج صاعداًُ نحو السحبْ
..لتدقّ مسمارَ الوجود أمامَ آلاف الحقبْ
وتصيح:ُ ياكبدي أنا
...إني هنا.
..لا ترتجفْ
لاتبتئسْ
هيا اقتربْ....
هيا اقتربْ..
متطلعاً نحو الشهبْ
متوضئاً بالصبرِ إذْ يغشى التعبْ..
R.S
بنبض رنا صالح الصدقة
__________________
لارجل في حياة المرء له مكانة الأب فوحده الأب من يحمل همّ أبنائه في نومه وصحوه ويرشدهم لما فيه خيرهم . فهو السّور المنيع الذي يحفظ العائلة وبرّ الأمان وعمود البيت وخبرة الحياة .
ورنا صالح هذه الشّاعرة البارة بوالديها أتحفتنا مرةً بنصّ عن الأمّ وهاهي اليوم تمتعنا بنصّ جديد في غاية الرةعة عن الأب .
النصّ على البحر الكامل ,وهذا البحر يعطي الشاعر مجالاً واسعاً فسيحاً أكثر من غيره في نظم واختيار معانيه والتنويع في الموسيقا الدّاخليّة بين ألفاظه وعباراته , وهذه السّعة والإيقاع يرتبطان إلى حدّ ما مع المشاعر الجيّاشة والأحاسيس المفعمة بالأحزان والتي غلبت على النصّ رغم مايبدو أحيانا على خلاف ذلك في بعض مفردات النص .
تبدأ الشاعرة نصّها ب ( ياوالدي ) والتي تتكرّر في النصّ أكثر من مرّة , وهو ليس أيّ والد بل والدها الذي عرفته عن قرب مستخدمة أداة النّداء ( يا) وهي أداة للنداء تستخدم للقريب وللبعيد ؟ هو قريب لأنّه يسكن في قلبها وفكرها وهو بعيد مكانياً بسبب السفر . هو من تعب ليواسي جرحها وفي عينيه فرح أحلامها , وعذابات كلّ كلّ الآباء والخير كلّ الخير للأبناء . وتبدو علائم الزمن تفعل فعلها بهذا الصلصال من طول المعاناة ولكنّه مع ذلك يعيد الأمل بالحياة أملها هي ويدفعها للحياة تاركة خلفها اليأس ( مازلت تلتحف الحروف ........ لتردّد الأصداء حيّ على العمل ) .
هو الأب يحاول أن يعيد ترتيب الأشياء من حوله دائماً وحياة أبنائه ليؤمّن مساحة من الطمأنينة والدفء وفي حالات الألم ( يبكي المساء ) يحمل على عاتقه كلّ الأعباء ( من أجل أن يأتي الصباح مكللاً بندى الربيع ) بل حتى إن ضاق الكون به يجترح المعجزات ( لم تبتئس .. لم تسترح .... وظللت تعرج صاعداً نحو السحب ... لتدق مسمار الوجود أمام آلاف الحقب ) وتردّد رنا مع المردّدين على مرّ الزمن أن الأبناء فلذات الأكباد لكنها هنا أجمل بإضافة ياء المتكلم وأداة النداء وضمير المتكلّم معا ( يا كبدي أنا ) .
الملفت حقاً أكثر من غبره " والنصّ كلّه ملفت " الإيقاع الذي تتمايز به شاعرتنا رنا في كلّ نصوصها وهذا النصّ واحد منها .
- حروف المد ( الحالمين . الكادحين . الأمواج . الآلام . الصلصال . جراحنا . آلاف . ياكبدي . والتي تفرض إيقاعاً على إحساس السّامع وهو إيقاع مديد بيء ينسجم ونبرة الحزن والتوجع والنداء وتجتمع مع تكرار الأحرف الأساسية الطاغية على النصّ ( كالراء مثلاً ) ممّا يمنح النصّ السلاسة والخفّة والنطق الرهيف بعيداً عن الوعورة والجفاف وائتلافاً جميلاً مع المحتوى الذي يركّز على النواحي الوجدانيّة والإنسانيّة .
- النداء ب ( يا ) : وهولإثارة الانتباه ولفت النّظر وهذا الأمر لا يتحقّق إلاّ بالإعلان وارتفاع حدّة الصوت ووضوح النطق على المستوى السمعي . والنداء هو صرخة من الشّاعر للمتلقي كي يشاركه في مشاعره أو غيرها .
- القافية السّاكنة ( حالمينْ ..كادحينْ | المطرْ .. الأثرْ ...سفر ْ | الطرقْ .... الشفقْ .............) .وهذا السكون يعبر عن حالة من العجز واستلاب الإرادة وشعور القلق وإحساس الغربة وصعوبة الحالة التي يمر بها الشاعر .
-وللأفعال في النصّ حكاية أخرى . في المقطع الأوّل بدأت بالجمل الاسميّة التقريرية لأنها راحت تسرد من مخزونها الواعي بعضاً مما طفا على ساحة الوعي وهذه الصفات التي أتت عليها تؤهّل هذا الأب أن يكون نصف إله أو ملاكاً يستطيع أن يجترح المعجزات ولذلك استخدمت أفعال الأمر( اسحب . اخلع ) وهي على ثقة بإنجازها لما تحمله في وعيها من صفات أبيها ( اخلع خطى الآلام من كلّ الطرق | واسحب وشاح الحزن من وجه الشفق ) . وهي على يقين أن السعادة تأتي بعد الشقاء .
وفي المقطعين الثاني والثالث استخدمت الأفعال المضارعة ( تفضي وتبوح وتصيح و تغازل...........)وقد أكثرت منها وهي أفعال تدل على الحيوية والحركة والاستمرار كما تدلّ على التطلع نحو المستقبل . وهي ترسم بهذه الأفعال ماهية الأب ودوره في الحياة مع أسرته . وقد بدأت المقطع بالفعل ( مازال ) وهو ماض منياً حاضر بالدلالة .
وفي المقطع الأخير ( الثالث ) عادت لتستخدم اسماء أفعال الأمر وأفعال الأمر ( هيا اقترب ) فربطت بذلك بين المقطع الأول والمقطع الأخير وكأن أفعال الأمر الطلبية هنا جاءت ردّاً على الأفعال الطلبية في المقطع الأول واستجابة لها مع تبدّل المتكلّم بين المقطعين . وهنا لابدّ من الإشارة إلى الحوار والسّرد الذي بدأ به النصّ ثمّ انتهى بحوار وسرد لمتحاور آخر ممّا منح النصّ تكامله وانسجامه وحركة متصاعدة بدأت في المقطع الأوّل بمشهد دراميّ رائع لتنتهي في المقطع الأخيربهذا القرار .
هذا غيضٌ من فيض النصّ الجميل . والذي تعددت جمالياته حدّ الاكتنازوهو نصّ يتمايز بانسجامه وتآلفه.
\هيّا اقتربْ/
ياوالدي..
...رغمَ التعبْ
-تعبٌ يواسي جرحنا-
في مقلتيكَ غناءُ كلّ الحالمينْ
، وأنينُ كلّ الكادحينْ....
، ورعود ماقبل المطرْ
وعلى جبينكَ سجدةُ الأمواج ِيتبعها الأثرْ..
.وتآكل الصلصال من طول السفرْ..
فاخلعْ خُطى الآلامِ من كلِّ الطرقْ
واسحبْ وشاحَ الحزنِ عن وجهِ الشفقْ
إذ هدأة اﻷيام ِمن رحم الصخبْ ....
ياوالدي...
مازلت تلتحفُ الحروفْ
وتعيدُ ترتيبَ الأماكنِ والرفوفْ
وتشاركُ العصفورَ تغريدَ اﻷملْ ....
وتخيطُ للعشّاقِ أثواب الغزلْ ...
لترددّ اﻷصداءُ حيَّ على العملْ....
..ياوالدي...
...مازلتَ رغم جراحنا ....
تفضي بسرّ الدفءِ في ضوء ِاللهبْ...
وتبوحُ للفجرِ الجديدِ ببعض آيات البقاءْ....
وتغازلُ الليلَ المُعنّى عندما يبكي المساءْ
من أجل أن يأتي الصباحُ مكللاً بندى الربيع
..لم تبتئس ْ
لم تسترحْ
وظللتَ تعرج صاعداًُ نحو السحبْ
..لتدقّ مسمارَ الوجود أمامَ آلاف الحقبْ
وتصيح:ُ ياكبدي أنا
...إني هنا.
..لا ترتجفْ
لاتبتئسْ
هيا اقتربْ....
هيا اقتربْ..
متطلعاً نحو الشهبْ
متوضئاً بالصبرِ إذْ يغشى التعبْ..
R.S
بنبض رنا صالح الصدقة