» » _____ الحوار والقصة القصيرة _______ نموذج تقنية حوارية: نص "عقب سيكارة" للسيدة ميسون السعدي - بقلم الأستاذ مصطفى بلعوام



ما إشكالية مشكلتنا مع القصة القصيرة ؟
من البدء، تكمن عناصرها في كيفية طرح السؤال: هل مشكلتنا تنبع من القصة ذاتها  أم في علاقتنا بها، أي "معها"؟ وما الفرق؟
صيغة "مع" في السؤال تدل على نوع من المسافة الذهنية بين الفكر وموضوعه الذي يأخذه موضوعا لموضوعه، وبالتالي، لغير ذاته. وصيغة " في" تدل على تجليات الفكر من موضوعه بمعنى في ذاته ومن ذاتها"هي
هي القصة القصيرة". ويعطينا نص ميسون هنا فرصة لشرح هذا الفرق/الفارق المعرفي بين ما هو لذاته ولغير ذاته اعتمادا على خاصية الحوار فيه، وعليه، في كنه ذات القصة القصيرة.
لنعاين عينة من هذا الحوار إذا :

١-

- صباح الخير ... رصيف شارع أعبر كل يوم.
- صباح الخير .. مدينتي.. مدينة تشهق.. تشهق.. لكنها حتى اللحظة تتنفس.
يعذبني كل هذا الجمال وكل ما أرى فيك
( تلك اللحظة لم يستطع إلا أن يقول هذا).

٢-

- أبي أين أنت ذاهب ؟
ابتسم من فن التمويه عند صغيره
- أحببت أن أراك... إذا رغبت نمشي في المدينة معا

٣-

- أين سنجلس ؟ .. سأل الأب
- حيث تريد يا أبي
- لا أحد اليوم يجلس حيث يريد. أريد فقط أن أرى المدينة وأراك.
- وأمي يا أبي.
- نعم .. بالتأكيد .. أمك.. ترانا أينما كنّا.

٤-

- وأمي يا أبي.. والمدينة !؟
- ما بهما!؟
اتركني من هذا الآن مع سيكارتي وابن يكبر. صمت الاثنان

٥-

- أبي هل أنت الآن سعيد، حزين، أم غاضب!؟
- أنا بالحقيقة لا أعرف!
- هل أطفئها ؟
- لا... لا تطفيء شيئا داخلك.. لا تطفئني

القاسم المشترك لهذه العينة من الحوارات يتمثل في الصيغة الحوارية بمعناها الحرفي والاصطلاحي: أ<——> ب يتبادلان أطراف الحديث بحيث يتحول كل منهما في عملية الإرسال للرسالة من مرسل إلى مرسل له؛ لا وصاية ولا سارد براني ينوب عنهما؛ هما معا يقبضان على زمن القول باللحظة التي يأتي فيها القول؛ زمن القول هو من ذات الزمن الذي يقال فيها القول، أي اللحظة ذاتها من دون"قبل" أو "بعد". تقديم جد صوري عام؟ لكن هل ما يعنيه هنا يعني القصة القصيرة؟
في حوار ( ٥)، نعاين :

- هل أطفئها؟
- لا .. لا تطفيء شيئا داخلك..لا تطفئني

حوار بين أ (أب ) __ و ب ( إبن)؛ سؤال الإبن مرتبط بفعل مادي (السيكارة) وجواب الأب بتداعيات لا تجيب عن السؤال ولكن يتكلم بها مع نفسه جاعلا إياها أجوبة على أسئلة يوحي بها السؤال المطروح والذي لا يجيب عنه مباشرة. جواب(أ)هو إذا جواب من دون
جواب:جواب لأنه ردة كلام على سؤال، ومن
دون جواب لأنه لا يجيب عنه مباشرة داخل نطاق الإجابة عن السؤال مادامت ترسيمة الحوار تقتضي رسالة ذات معنى واضح لكل من  السؤال والجواب في علاقة (أ) و (ب).
هل هذا حوار؟ وما الحوار ؟
إشكالية مشكلتنا " مع" القصة القصيرة هنا تكمن ليس في الإجابة على هذين السؤالين ولكن في مصداقية نجاعة طرحهما على هذا النحو وبهذه الطريقة التي نتناول بها الحوار من خارج القصة القصيرة، لغير ذاتها، وكأنه
ذو معيارية يستمدها من ذاته، تعطيه وضعا مفهوميا قارا يتعالى على أي حقل يستدعيه  لأغراضه الخاصة به، أدبيا كان أو لا. ننطلق غالبا من نفس المعطيات التي نستخلصها في أنموذجين :

- أنموذج الحد الأدنى : يأخذ الحوار من
أدنى وحدة تشكل عنصريه : تفاعل تلفظين
على الأقل من قبيل التواصل الشفهي؛ ثمة ملفوظ وتلفظ مزدوجان يحملان لبعضيهما رسالة أو معلومة تشكل محفز وفِي ذات الآن
موضوع التواصل بينهما: (أ) <—> (ب).إنه تبادل كلامي له مقصدية وغاية ويخضع من أجل ذلك لقواعد ضرورية، مثل (غرايس) : * قاعدة الكم:ارتباط المعلومة بالهدف منها إذ لا يمكن تقديم كمية من المعلومات للتو.
* قاعدة العلاقة: قول ما يفيد الغرض.
* قاعدة الصيغة: استعمال طريقة في القول  تحميه من الغموض والالتباس.

- أنموذج السياقات النسبية:تعود به إلى
سياقات متعددة تخضع لها لغته، كأن تحيله إلى طبيعة الموضوع الذي يفرض بشكل ما نوعية الكلمات التي مخول لها الاستعمال، وكأن تربطه بالموقعة الاجتماعية والثقافية للمتكلم بحيث أنه لا يمكن له أن يتكلم عن شيء يجهله (أمي يتحاور بلغة علمية)، وكأن
ترجع به إلى الحالة النفسية للمتكلم الذي لن يستعمل مثلا تعبيرات "الفرح" للتعبير عن حزنه ..

بيد أنه إذا تلمسنا الطريقة التي تمت ويتم بها معالجة الحوار في القصة القصيرة، فإننا
سنلاحظ أنه لا يخلتف عمقا عما قدمناه من أنموذجين بل بالعكس إنه يضيف لبسا على غموض و فوضى على متاهة، بدءا من دلالة الحوار نفسه؛ أغلب التعريفات تلتقي بشكل أو بآخر عند طرح واحد: الحوار هو ما يقوله لسان الشخصية أو الشخوص، ويجري طوره على الأقل بين شخص وشخص آخر يتبادلان حديثا أو يعني شخصا يحادث نفسه؛ للأول تسمية الحوار الخارجي بينما للثاني الحوار الداخلي: علاقة (أ) ب (ب) تساوي علاقة (أ) ب ( أ') وكأنهما يخضعان لنفس النظام في الدلالة لما يعنيه مفهوم الحوار الذي يصبح هنا مفرغا من دلالته بحيث نعني به الشيء ونقيضه : محادثة، مكالمة، مقابلة، ملافظة.
هل يمكن للحوار أن يكون داخليا وخارجيا؟
لنفرض أن ذلك ممكنا؛ فهذا يعني أن صفة الخارجي والداخلي لا تحدده؛ تعتبره فقط مجرد فعل تلفظي، وبالتالي، لا تتناوله من حيث هو حوار، تنفيه فيما هي تبحث عن تحديده، فما هو داخلي ليس حوارا وما هو خارجي لا يمكن له أن يحمل صفة ما هو داخلي بما أن الحوار يقتضي وجود عنصري طرفيه (أ) و (ب) وليس (أ) و (أ')، أي ليس مناجاة ولا محادثة نفس مع ذاتها.
من هنا تبدأ إشكالية مشكلتنا "مع" القصة القصيرة فيما يتعلق بمسألة الحوار ونضعها
فيما لايعنيها من حيث هي فن كتابة الحياة المقلقة والقلقة في بحثها عن ذاتها عبر ما تعطيه للمعاينة في حياة الإنسان. فنجد من يقول إن الحوار"وسيلة شكلية"، يساعد على
إبراز ما تخفيه الشخصية ويجنب السرد من
الرتابة والملل، وهو " وكأنه في الواقع تماما، لكنه ليس بالواقع، "ويبين ما لا يحق للراوي أن يبينه بنفسه في بقية السرد"، وهو ليس ضروريا في القصة، ويجب أن يكتب " كما هو خارج من الشخوص وتحركت لأجله، أي بنبرة الصوت، بالإيماءة اليدوية، بالحركات الجسدية، بتعابير الوجه ....".
لنتوقف ببعض الملاحظات العابرة :

يجنب السرد الرتابة لكنه غير ضروري، وبما أنه غير ضروري فهو لا يجنب السرد الرتابة ولا يعني أن فقدانه إياه يسقطه بالضرورة فيها.

وكأنه في الواقع تماما،لكنه ليس بالواقع، أي أننا لا نتكلم عن نفس "الواقع"، وبالتالي لا يأخذ هويته من الواقع الذي ليس هو واقعا، حتى ولو كان من قبيل "كما لو ".. لأنه في اللحظة التي ندخل فيها "كما لو" ننتقل إلى واقع غير ذاك الذي نفرض أنه سابق له.

ويبين ما لا يحق للراوي أن يبينه بنفسه في بقية السرد، وكأنهما في مسرحية توزع على كل منهما دورا يلعبه دون فصل الصيغة عن عن الفاعل modalité/actant.

ويجب أن يكتب كما هو خارج من النصوص وتحركت لأجله، أي أننا نخرج " الواقع" من الباب وندخله من النافذة " كما لو"...

نستخلص من هذه الملاحظات العابرة أننا نتعامل مع الحوار في القصة القصيرة من خلفيات مرجعية بعيدة عنه:
- المسرح : نجعل صيغات الحوار فيه أنموذجا للقصة القصيرة التي نريد أن تتقيد به "كما لو" أن " لا شخصية لها" من حيث هي نوع أدبي.
- السرديات وأخواتها: نطبق كل ما تقوله السرديات وأخواتها وما استخلصتها من الرواية خاصة، عليها، باسم السرد.

ما هي طبيعة الحوار في "عقب سيكارة"؟
يبدأ :
- صباح الخير .. رصيف شارع أعبر كل يوم
- صباح الخير .. مدينتي.. مدينة تشهق.. تشهق..لكنها حتى اللحظة تتنفس.
يعذبني كل هذا الجمال وكل ما أرى فيك.
(تلك اللحظة لم يستطع إلا أن يقول هذا).

هل هذا مونولوج ( محادثة نفس مع ذاتها) أم استهلال لحوار  تسبقه وقفة سردية؟ صباح الخير هنا تلفظ لملفوظ الأب، يقولها تاركا نقط حذف تأتي بعدها جملة : رصيف شارع أعبر كل يوم. لا توجد علاقة سببية لا من حيت اللغة ولا الاستدلال المنطقي بين الجملتين بالرغم من وجود حذف نقط تأتي
تابعة للجملة الأولى وليست سابقة لنكرة الجملة الثانية : رصيف.وقفة سردية غريبة معلقة بين تلفظ شفهي موجه لكن من دون تحديد صريح (صباح الخير)  وتلفظ تقريري غير موجه. بيدا أنها في الشق الثاني، تحدد الموجه له مع وقفة سردية نكرة تصاحبها : صباح الخير ..مدينتي/مدينة (نكرة) تشهق..
لماذا ؟
يعطنيا الحوار الآخر إشارات لفهم ذلك:

- مازال هنا؟ سأل...
- سيخرج بعد قليل. أجابت زوجته.
- لماذا تسأل!؟
- لاشيء..ابتسم متابعا جمله الصباحية.
يسأل.. لكن هذا لا يقطع عنه حبل ما بدأ به في البداية : إنها جمل صباحية، وكأنها نوع من المونولوج، لكن هل بالفعل مونولوج؟
نتابع نفس الحوار :
- أبي أين أنت ذاهب ؟
ابتسم من فن التمويه عند صغيره
- أحببت أن أراك.. إذا رغبت نمشي في المدينة معا.
جلي أن الحوار هنا يجري بين (أ) و (ب)؛ الثاني يسأل والأول يجيب؛ ظاهريا، إذا ما اعتبرنا أن من قواعد الحوار الاعتماد على معلومة واضحة؛ فهنا كيف يمكن ل (ب) أن يفهم من جواب (أ) بأنه يريد أن يرى من هو أمامه؟ ويعيد (أ) نفس الجواب ل (ب) في الحوار التالي :
- أين سنجلس؟ سأل الأب.
- حيث تريد يا أبي.
- لا أحد اليوم يجلس حيث يريد. أريد فقط أن أرى المدينة وأراك.
يجيب (أ) إذا بانه يريد أن يرى المدينة وأن يرى الذي أمامه(ب).تلك المدينة التي فتش
عنها فلاحت له غائمة تحث سحب القذائف والطائرات المغيرة هذا الصباح وكل صباح. لكن لماذا يريد أن يراه وهو أمامه ؟ لأنه لم يكبر بعد :
- وأمي يا أبي .. والمدينة!؟
- ما بهما !؟
- اتركني من هذا الآن مع سيكارتي وابن يكبر
ابن (أ) يكبر مع السيكارة ودخانها وهو نكرة، أي لا يعني أنه يحيل إلى (ب) كما لا يعنيه بالضرورة في هذا الحوار :
- أبي هل أنت الآن سعيد، حزين، أم غاضب!؟
- أنا بالحقيقة لا أعرف!
- هل أطفئها؟
- لا.. لا تطفئ شيئا داخلك.. لا تطفئني

جواب (أ) الأخير يعطي مفتاح الحوار في هذا النص : لا .. لا تطفيء شيئا داخلك.. لا تطفئني.
ويمكن توضيح ذلك من خلال :
(أ)<——>ب
(أ) ——- أ')
لا تطفئ شيئا داخلك أنت(ب) لأنه سيترتب
 عنه إطفاء (أ') داخل (أ)، و (أ') هو الذي يصاحب (أ) في عالمه ويحل محل (ب) عندما يعطيه أجوبة غير مرتبطة بأسئلته التي تطرقنا إليها أعلاه. وهو متضمن في :
" أنا أستمر بك .. أنا وأنت.. أنت وأنا واحد.
يعني أن ترسيمة الحوار في النص تنهض على :
علاقة (أ) —(ب) داخل علاقة (أ) —-(أ').
/-
كان الهدف من تناول نص "عقب سيكارة" هو محاولة لإبراز هذه التقنية الحوارية فيه وليس قراءته في مجمله.
/-
دمت بخير...وما كان لانتظارك انتظارا أبدا.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini